أنا أتألم*
هل أنت شجاع/ـة ما يكفي للاعتراف بالألم؟
أناضل لكتابة هذا المقال باللغة العربية لأنه فيما عدى ألم العشق، الفقد، وسكرات الموت، لا يوجد الكثير من الألم للتعبير عنه بها. الألم الذي أنا بصدده هو الألم النفسي الذي يكتمه الكثيرون خوفًا من حكم المجتمع حتى يحاصرهم صداه ويثقلهم التراكم ويقفون أمامه عاجزون حتى عن محاولة التعبير عنه.
لم يتركني هذا السؤال وحالي منذ وضعتني مسيرة حياتي في احتكاك مباشر مع العديد من الأمهات الجدد ورأيت أمامي صورًا كثيرة لاكتئاب الحمل واكتئاب ما بعد الولادة بدرجاتهم المختلفة. كما رأيت ألمًا تخجل النساء – أو بالأحرى الفتيات اللاتي وجدن أنفسهم نساءً فجأة – من التعبير عنه أو الاعتراف به أمام كلمات مثل “هو انت أول واحدة تخلف” “ما عيب بقى غيرك يتمنى” إلى آخر هذه الأحاديث.
وعلى مسافة أخرى أرى أمهات نالت منهن التراكمات وأمامهم أطفال لا تتخطى أعمارهم العامين ويسألون عن طرق التعنيف والعقاب المناسبة لهذا السن؛ لأن المجتمع يحكم عليهن من تصرفات بنيهم. يصل الأمر ببعض الأمهات إلى الضرب أحيانًا ويبررن قائلات: “ما احنا اضربنا يعني جرالنا ايه”.
وينسحب اليوم تلو الآخر في حياتهن ولا تصرخ أيهن “أنا أتألم” وإن صرخت يكتم صوتها بعبارت التقريع ويكتم ألمها داخلها ولا تواجهه ولا تعالجه ويبقى أثره ينخر مستقبلها ومستقبل بنيها بلا هوادة.
*****
“أنا أتألم”
“عيب”.. هذا هو تعريف الألم في مجتمعنا وفي لغتنا، فالولد منذ صغره لا يبكي لأنه “الراجل مبيعيطش” والمرأة مهما تأذت لن تصبح إلا أقوى “اكسر للبنت ضلع.. يطلع لها 24”؛ هذا الرد يأتي من المقربين، وربما أقرب الأقربين.. مثل الأهل مثلًا، الأب والأم والزوج والاخوة.. “ما تسترجل كده امال!”
“ضعف” وكأي ضعف في مجتمعنا يجعلك الألم أو التعبير عنه عرضة للسخرية والاستهزاء.. ويجعلك تخشى ألا يراك الآخرين على قدر ما أوتيت من المسؤولية ولا قدر ما يحتاجون فيك من صديق أو سند
“وحدة” في الألم أنت وحيد، تخشى إيلام من تحب إن شاركت ألمك أو عبرت عنه، وتعرف يقينًا أنه لا أحد يريد أن يسمعك؛ تنزوي في الركن تنتظر من الألم أن ينهشك ويقضي عليك.
“انفجار” مع التراكمات لا شيء يبدو منطقيًا.. سيقول لك الآخرون ما بالك تغيرت فجأة.. “انت بقيت عصبي كده ليه” “انت ليه بطلت تسأل” ولا أحد يستوعب اللحظات الثقيلة التي مرت عليك حتى ذابت روحك وشكلها الألم كيفما أراد ولا أحد يستوعب أنه لا شيء يأتي فجأة.
*****
الخبر السيء: “قلة هم المحظوظين الذين يجدون شخصًا يغامر لينتشلهم”
الخبر الجيد: “يمكنك قولها.. أنا أتألم”
“أنا أتألم”
هذا الاعتراف ليس مشينًا، هو مؤلم فقط.. ثقيل على اللسان.. ثقيل على القلم.. ثقيل على القلب.. حتى أنا التي أوصيك بهذا الاعتراف أستغل هذا المقال لكتابة الكلمة لصعوبة نطقها وقولها والاعتراف بها.. وعلى أنها ليست اعترافًا في مقالي؛ إلا أنها مازالت ثقيلة!
“أنا أتألم”
لا يجب أن يكون أحدًا بجانبك ليسمع هذا الاعتراف أول مرة، ولا اخر مرة؛ لكن يجب أن تكون أنت الحاضر الأساسي والفاهم الأول والأخير والأكثر استعدادًا لمحاولة التعافي..
“أنا أتألم”
حتى وإن كتبتها على ورقة مقابل بعض الخربشات، اليوميات، الرسومات الغير مفهومة، الحكايات الغير مرتبطة.. المهم.. أن تعبر عما بداخلك، لصديق، لنفسك، للمرآة، لحيوانك الأليف، لطفلك الصغير، أو للورق.. فقط.. عبر!
*****
قلبي يؤلمني.. اليوم رأيت قطة على جانب الطريق وقد دهستها سيارة.. كانت مازلت في طريق السيارات الأخرى رغم أن أحدهم اجتهد في إبعادها عن قلبه.. بدا من حجمها أنها كبيرة.. ولما فاديت أن أدهسها مرة أخرى؛ سألت نفسي عن مكان أطفالها.. هل لها أطفال؟ من يطعمهم الآن؟ من يرعاهم؟ هل يا ترى ينتظرونها؟ وإلى متى؟
أفقت من تساؤلاتي حين وصلت إلى المنزل وأوقفت السيارة، ووجدت نفسي لا أريد أن أبرح مكاني وفقط أريد أن أرثى القطة. لا أفهم ما بي ولماذا يؤلمنني ما رأيت.. إنها مجرد قطة وإنه مجرد مشهد متكرر. أجلس أمام المقود شارد الذهن بدمعات متحجرة تأبى أن تهطل.. أنا أتألم
*****
العالم قاس للغاية… هذه حقيقة وليست “دلع” ونحن الأكثر قسوة على أنفسنا. قم يا صديقي وافتح مسجل الصوت على هاتفك، أو كاميرا الفيديو، أو مدوناتك الشخصية على الهاتف، أو كراساتك ذات الورق صاحب الرائحة العتيقة، أو ورقة تنوي أن تحرقها، واكتب لنفسك أولًا.. ماذا يؤلمك؟ ماذا يثقلك؟
حينما كنت أفكر في كيفية عرض فكرتي عن الألم كل ما جاء ببالي عبارة باللغة الإنجليزية يستخدمها الأطباء “ tell me when it hurts” “أخبرني حين يؤلم”.. عبارة يستخدمها الأطباء حين معاينة المرضى لمعرفة موضع الألم وشدته لتقييم حالتهم. لكن حين يكون الألم نفسي، ألم بداخل الإنسان لا يوجد له ندوب ظاهرة.. لن يستطيع طبيب ما الضغط حتى يؤلم شيء ما..
أنت وحدك القادر على تحديد موطن الألم وكنهه وأصله.. فقط عبر؛ تحدث عن الأشياء التي قد تبدو تافهة.. تعلم معها كيفية التعبير وكيفية الصدق مع النفس وكيفية مواجهة روحك بما يؤمها.. حتى إذا ما لامست أكثر ما يؤلمك وأكثر آلامك تجذرًا في روحك؛ تكن قادرًا على التعبير.. الصدق والمواجهة.
قل معي.. لا شيء يُخجل: “أنا أتألم”!
* كان من المفترض لهذا المقال أن ينشر على مدونات الجزيرة، لكنه لسبب غير مفهوم تعطل نشره.. لذا نشر هنا على مدونتي الشخصية.. كونوا بخير.
أسماء