ما أسهل أن تضل!

ما أسهل أن تهتدي إن كنت في البدء تجهل

وما أسهل أن تضل وأصعب الاهتداء من جديد!

هناك راحة خفية في الكتابة باللغات الأجنبية في المسائل الخلافية حين تطرح رغم أن محورها المجتمعات الناطقة بالعربية. استلزم هذا المقال قدرًا أكبر من المعتاد من الطاقة لأتم كتابته بالشكل الذي يرضيني؛ عسى أن يقدم الفائدة لمن يحتاجها. ومع ذلك بي خشية أن يقدم هذا المقال أسئلة أكثر مما قدم من إجابات؛ ولكنها في النهاية أسئلة تستحق الاجتهاد في الإجابةولعل هذا المقال يمسي قطرة الماء التي تكسر صخرة هذا الصمت المريب.

قرأت تعليقًا مواسيًا لإحدى صديقاتي المغتربات، في وفاة فتاة من بني جلدتنا ظنوا فيها أنها ضلت عن دين الله ولم تعديخبرها أن المركز الإسلامي لا أدري أين شهد إسلام ثلاث فتيات هذا الأسبوع وكأن هذه بتلك أو كأن هناك هدف ما score لا يجب أن ينخفض عنه المسلمين وأن روحٌمن المحتمل أنهاضلت عن درب الحق؛ يمكن تعويضها.

ما الدين؟ في رفض العلمانية يقف الشيوخ ليقولوا أن الإسلام دينٌ ودُنيا؛ إذًا لنتفق بشكل مبدأي أن الدين يحتاج مجتمع ليستقيم وأنالإيمان وحيدًاأوالاعتزالليس خيارًا شائع على الأقل لدى المسلمين. وليستقيم الدين؛ لابد له من مجتمعيستقيقيمه منه؛ ويسعى للاستقامة!

ما أسهل أن تهتدي إن كنت في البدء تجهل!

عندما تكون خاويًا من كل معنى روحي أو كنت حبيس مجتمع يحتفظ بالمظاهر ويفقد الروح الدينية وتبدأ برحلة البحث؛ ستكون محظوظًا جدًا وبخاصة إن كنت أجنبيًا لو عثرت على طريق للإسلام. في البدء كلهم إخوة brothers و أخوات sisters وتجد الروح المرهقة بدافع غريزي حاجتها في المركز الإسلامي، بلا أدري أينعاصمة دولة ذات مستوى رفاه عالوتجد لنفسهاقطيعربما تأمن على نفسها فيه، ونصوص مترجمة لمصطلحات أخف وقعًا أو رهبة من نظيرتها العربية وصوت خفيض وتعامل مهذب ومساحة للتواصل الفعال مع الخالق بعد رحلة عذاب وشقاء في الطريق الخال من أي معنى يدل عليه وصبر طويل على الأسئلة بدافع من إيثار الوقت للدعوة أو الأنانية المحببة في ثواب انضمام شخص جديد للإسلام. وفي ظل حياة الفرد المنظمة من عمل وعائلة؛ يجد لروحه مكانها وينتظم في دروس تقربه من ربه، خالية من أي ملامسات دنيوية، يحفظ ورده ويصلي فرضه وينام هادئ البال أن وجد ربه أخيرًا. مع الوقت يحاول أن يدمج ما اعتنقه مؤخرًا في حيوات من حوله وقد ينجح حينًا ويفشل حينًا، قد يخسر أهلًا ويكسب صاحبًا ويجد زوجًا ويبني حياة جديدة فيجد لنفسه دربًا يحيا عليه ولأجله.

عندما تعمل ضمن مجتمع ما تستخدم لغته، مداخله ومبادئه لتتماهى ضمنه فتمهد للقبول؛ وذلك ليس بمذوم، بل هو من الدعوة إلى سبيل الله بالحكمة والموعظة الحسنة ولأنها لغة مقبولة حكيمة في سياق مجتمعي يقبلها؛ يصبحإن كنت بالأصل جاهل باللهأن تجد الطريق إليه؛ في المجتمعات التي يتاح لك فيها أن تفكرأصلًا! هذه المراكز الإسلاميةالغربيةلا تتحدث العربية، لا تعمل ضمن سياقات المجتمعات العربية، لا تحابي للمعتدي في حالات العنف الأسري: ”استري بيتك وربي عيالك!“ لا تقوم بتسجيلات مونو وتضيف لها الصدى تبدأ بـأختااااااااااااااااهثم تلصق بالفتاة كل احتمالات الفتنة فتعفي الرجل وترعب الفتيات.

ما أسهل أن تضل!

ليست المجتمعات العربية محظوظة بخطاب حقيقي للدعوة. خطاب الدعوة إلى اللهلغير المسلمينمبني على إيمان الداع برغبة السائل في الهداية. هو خطاب يفترض أن فطرة النفس البشرية ستجعل القلب يرق لذكر الله ويهتدي بسلاسة لإيجاده البوابة للخالق، أخيرًا. وعلى الناحية الأخرى الخطاب للمسلمين يفترض أن المسلم المتسائل إن لم يخف سيضل وأن النفس البشرية ستتبع هواها ما لم تتبعدعوتنا“. وفي تغييب متعمد للحوار ونهر للسائل؛ يتبع هذا المنطق سلاسل من المخالفات الشرعية كالغيبة والنميمة بحجة الإطمئنان على أبناء وبنات الأمة، إفشاء الأسرار بحجة الاستشارة وذلك كمثال وليس الحصر. وكما الدعوة للإسلام في الغرب فالدعوة للتدين في المجتمعات العربية تتقولب على نسق المجتمع المحيط؛ فتقدم الأعذار للرجل سلفًا وتحاسب الفتاة أضعافًا على أقل فعل. كل خطأ مصدره ذكر قابل للتهوين وكل خطأ مصدره أنثى قابل للتهويل؛ وتسمى الأشياء بغير اسمها للحفاظ على الشكل الاجتماعي المناسب. وكما المنظومة الإجتماعية غير عادلة فالمنظومة الدينية التي نمت بالقلب منها غير عادلة هي الأخرى.

يولد المرء مسلمًا، يحاول التعرف على الله في صغره متسائلًا ويواجه بضحك من سؤاله أو نهرٍ لمحاولته الفهم. ينشأ الطفل وفي قلبه الفطرة الإنسانية من السعي للعدل والرحمة ويتفاعل مع المجتمع فينميه أو يفسده. وهناك حديث شريف يقول: ”إنما أهلك من قبلكم أن كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد!“؛ لو وعى أهل الدعوة لأدركوا أن السرقة هنا ليست لذاتها، وإنما هي مؤشر عام لمنهجية التربية والثواب والعقاب وضرورة العدلقدر الاستطاعة! يتجلى غياب العدل في كل مناحي الحياة ضمن المجتمع المتدين، فبداية لمن أباك، إلى من تزوجت ومن أي جمع وأي عائلة إلى أي منطقة سكنت وأين نشأت وماذا عملت إلخ مما يعلمه المتدينونما شأن كل هذا بمن يضل وكيف يضل؟

كيف يكون هذا عادلًا!“ ”أين الله من كل ما يحدث!؟“ ”رباه؛ ألا ترى؟!!“

تنطلق هذه التساؤلات رغمًا عن المرء في طفولته وصباه أمام حالات الظلم الكبرى في السياقات الجماعية والأزمات التي تواجه الدول والفقر الذي يطحن الجموع والقنابل التي تدك القرى وغيرها وغيرها. تنطلق هذه التساؤلات ببراءة تامة؛ إلى أن تصطدم بالواقع الشخصي وينعكس كل ذلك على إطار ضيق جدًا من التعامل حيث يكون المرء فيه معرض لمظلمة شخصية ويخذله كل معلموه وقدواته. تتناسى حكمة الله وراء الأنانية البادية والفردية الخالصة للأشخاص؛ ويبقى التساؤل. والعدل وهو أحد أسماء الله جل جلاله، في غيابه؛ يضل المرء عن الله بحثًا عنه!

ولكن على عكس الطفولة، لا تقابل الأسئلة في الصبا والشباب بنفس الـلا تفكر في هذه الأمورأودع الغيبيات لعلام الغيوبومن ثم الصمت أو الإلتهاء ولكن تقابل بثورة هائلة من المجتمع؛ الأقرب قبل الأبعد، ومن ثم اتهامات بالضلال تدفع المرء دفعًاخارج القطيع“! تأتي الإجابات أو لا تأتي لكن وإن أتت تكون متأخرة جدًا بعدما تُغيب براءة الطفولة وتذهب حماسة الصبا ويقف المرء أمام تطبيقات مجتمعه ورفضه وإقصاؤه ويحتار بين الإجابات والتطبيق وبين المنطق والفطرة ورفض المظالم التي ذاقها.

ما أصعب الاهتداء من جديد!

حائرٌ، باحثٌ وتواقيقف من ضل فيجد من يجهل أسعد بإيمانه الجديد، يحتضنه مجتمعه الجديد بينما يقف هو موصوم بسؤاله لا بضلاله، خائف من العودة لمجتمع ظلمه ويتسائل: ما العمل؟!

ينسى المسلمون أن الإسلام دين إجتماعي وأن المرء بإخوانه وخلانه وعلى دينهم ودربهم؛ ويتركون من يسأل يحيد عن الطريق ويسير وحدهوينسى المسلمون أن الإنسان كائن اجتماعي، لابد له من أهل ومجتمع وخلان؛ ويتركون من يسأل يحيد عن الطريق دونما تقدير لأنه سيركن لمن يلقاه بمحبة لم يستطيعوها؛ وأنه قد يطول طريقه بحثًا عن الله فقط لأنه ترك على الدرب وحده!

مقالٌ طويل؛ المختصر: لماذا نضل؟ لأن الدين طوّع ليناسب المجتمع، ورغم مظالم المجتمع يوصم المرء بسؤاله عن العدل وهو اسم من أسماء الله سمى به نفسه؛ ينبذ وحيدًا! وبدون بوصلة يضل المرء إلى أن يصنع بوصلته الخاصةوليس الجميع محظوظ بالوقت الكافي لذلك، وليس الجميع محظوظ أن يهتدي لخلان صادقين أو مجتمع آمن

لعل بعض الإجابة تكمن في طفولة آمنة؛ آمنة بحقلا عنف بها ولا نهر، تقدم فيها بعض الإجابات بحب وتواجه الأسئلة التي لا نملك لها إجابة بحب أكبر وبسعي مخلصفالطفولة الآمنة هي مرفأ المرء مهما كبر؛ وهي مستودع قيمه ومحددات شخصيتهويكفي أن يعرف الطفل أنه في مجتمع يحترم فطرته في البحث عن الله وفهم الطريق إليه؛ لينشأ شابًا واعيًا يختار دربه بحرية تامة ويلتمس النور على طريقه كلما دعى: ”إنا إلى الله راغبون“!

ربما، إن أحسنا إلى أنفسنا بإحساننا إلى الجيل القادم؛ وجدنا نحن إجاباتنا واطمأننا إلى أن أطفالنا قد لا يواجهوا الظلم والظلام المنغمسة فيه مجتمعاتنا! وحينها، ربما

7 يناير 2020 

اسطنبول / تركيا

روميو هو صديقي…

الغرام