المتمردة والمحفظة البيضاء ذات الشريطة البنية اللامعة

الحب”..  “أنا سوف أحب” تتقافز فتاة في السابعة وهي تغلق قصتها الأولى عن الحب. تعدد في رأسها ما تعرفه عن الحب.. ثم أخذت تعدد من تحب.. ثم أخذت تتقافز فرحًا: أنا أحب كل الناس.

كانت السنوات السبع حكمًا أكثر عدلًا على ماهية الحب مما تكون الحياة؛ لذا بالطبع أكتب عن تلك الفتاة بضمير الغائب.. لأننا تباعدنا كثيرًا وصارت ذكرى جميلة في الصور.

رحلت تلك الفتاة مع سنوات الابتدائية حين قرأت في الثامنة قصة عن حبيب غدر، ثم رأت مدرستها المفضلة تبكي لانفصالها عن زوجها التي كانت تحب؛ ثم زميلات الدراسة وهن يتغيرن فيتباعدن ويتقاربن. ثم سنوات الإعدادية والثانوية حيث قطار الملاهي السريع الذي لا يتوقف ولا ينسى؛ ثم الجامعة حيث الدنيا أكبر وأكبر من القصص الملونة ذات النهايات السعيدة والعالم ذو القنابل والحروب والسياسات الصفرية.

آه؛ كلا، لقد زارتنا فتاتي حين ذكرت السياسات الصفرية ونظريات الواقعية، وابتسمت وضحكت.. وقالت أحب هذا. شغف قلبها حبًا جديدًا يدغدغني كلما ذكر.. لكن ليس مكانه هذه القصة.

دعوني أتوقف هنا لأرتشف رشفة من شايَّ الساخن الخالي من السكر – في كوب من الزجاج الملون لأنه يذكرني بصويحبات يملئنني حبًا

نعم، كنت أقول، تباعدت وفتاتي الصغيرة وصارت ذكرى جميلة في الصور؛ إلا أنني لم أتوقف عن الحب. أحب كل الناس.. ولكن؛ مع الأسف، لم يعد ذلك سببًا للتقافز فرحًا.. ربما.. للبكاء.

وصفت لحبي للعالم بالمتمردة من كل حد وصوب، كل من أحببت عارضني لحبي لآخر.. وأدركت أن نفسي لن ترتاح يومًا لأن لا أحد في دنيانا يحب الحب كاملًا. أدركت ذلك لحبي لدراستي وصقل معلميني لي. أنا نتاج ما علموني.. والحب.

قبل أن يكون العالم قرية صغيرة عن طريق أسلاك عملاقة تمر أسفل المحيطات الخطيرة، كان عالمنا الضيق جدًا يعتبر كلمة الحب عيب. لذلك كان ممنوع قولها وبالطبع تعرفون أن ما يقر في القلب يقر في القلب وإن مُنع اللسان من التصريح به ورغم ذلك أحببت عالمنا الضيق جدًا… تمامًا كما أحب قريتنا الصغيرة الآن. المهم؛ لم تكن أمي تحب ترديد كلمة “حب” حتى لا يؤذيني عالمنا ذو الفهم المعيوب عن الحب.. ولكنني كنت متمردة في حضورها أيضًا.. ولأنني الآن أم.. فأرى الآن بقلبها الشغوف كيف كانت تخشى عليّ من العالم.. لا تمنعني من الحب.

وذات يوم، كنت بعملي في قريتنا الصغيرة إذ صادفت أميرًا. لم يكن أميرًا ذو حاشية وخيل وعربات وقصور، لكن كان خلوقًا كيسًا لطيف القول ورقيق الابتسامة؛ فمُلئت روحي في حينها بنبضة من قلبي.. تنبئ خلايايّ كلها أن القلب قد خفق خصيصًا لينعم بلحظة جديدة من الحياة؛ ليحب هذا الأمير.

أوه؛ كانت تلك رواية فتاتي الصغيرة بالطبع.. وروايتي أيضًا.. لأننا قد التقينا مجددًا في تلك اللحظة.. وللحظة.. تقافزت فتاتي فرحًا وهي تقول.. “أحب كل العالم”

وذات يوم جاء أميري ليشاركني حب العالم.. كنت فقدت الأمل في أن أجد قلبًا واسعًا يتسع لبعض حبي لكل الناس؛ فوجدت قلبًا يحبني معهم. في ذات اليوم ذهبت فتاة في السابعة لأمها وتقافزت فرحًا وقالت: “أحب.”.

تورد وجهي أنا وتورد وجه أمي.. لكن فتاة في السابعة ظلت تتقافز.

مضت الأيام.. كما تمضي؛ أو بالأحرى.. كما يجب أن تمضي.. لأنها لا تفعل ذلك كثيرًا؛ وجاءت أمي للطفلة بنت السابعة بمحفظة بيضاء ذات شريطة بنية وقالت: “هنا أحتفظ لك بهدية زفافك”.

كانت المحفظة بيضاء كقلب أمي، مصنوعة من الساتان الأبيض الذي أعشق كفستان زفافي، مزينة بتطريز رقيق كيداها التي أفتقدها حين كنت أقوم على صوتها وهي تصلي فجرًا. تعلو الخيوط دوائر لامعة، وتغلقها شريطة بنية لامعة وزر بني متلألأ… انطبعت صورة المحفظة في ذاكرتي وعلمت أن فيها كانت تحفظ أمي كل الحب الذي لم تردني أن أهدره على عالمنا الضيق ذو الفهم المعيوب للحب.

آتى يوم الهدية، وتم الزفاف، وصار العمر لحظات تتسرب هربًا منا في ساعة رملية ذات اتجاه واحد؛ وصارت بنت السابعة أمًا…

وضعت فتاتيها في السرير ومضت تجوب المنزل حتى يناما… ولمحت في مكتبتها محفظة بيضاء ساكنة ذات شريطة بنية لامعة؛ فابتسمت..

“ياللعالم….”

تمردتُ وتمردت فتاة في السابعة، وأحببت العالم عمرًا ولم يحببني… وإن نضب الحب يومًا في قلبي؛ أرنو لمكتبتي…

فيها هدية أمي.

محفظة بيضاء، ذات شريطة بنية لامعة.. مليئة بحب.. يغمر العالم؛ ويفيض.

**

اسطنبول

 

الطبق الأزرق المائل للخضرة مرسال الهدايا

كابتشينو كرامل