مرحبًا.. أنا اسمي زاهية؛ ولدت في بيتٍ جميل على شاطئ البحر حيث قالوا لأمي أنني حورية وقابلتها الغجرية وأنا في حضنها في طريقنا إلى الحياة وقالت لها: حوريتك هذه ذكية.. فكوني بارة بها وكوني لها عينان تريا من العالم ما هو جميل.
أمي لم تكن تحب الغجر، فابتسمت في وجهها ابتسامة باهتة رمادية ومضت.. وكانت تلك الابتسامة أول ما رأيت من العالم
في طفولتي اشترت لي أمي فساتينًا بيضاء كثيرة، كانت دومًا تقول أنني أكون في عز بهائي في اللون الأبيض.. كانت تمنيني دائمًا بحفل زفاف كبير، أحلى من كل الحفلات التي حضرناها سويًا… وكانت تقول أنها ستمشي يومها في خيلاء فخرًا بي.
لا أعرف عن أمي الكثير، وصلت للمرحلة الجامعية الآن وكل ما أعرفه عن أمي هو قصصها الكثيرة عن عالم النساء.. وعالم النساء كما رأيته من خلال قصص أمي هو عالم من المتاهات والألغام والقلق.. كانت أمي تحكي عنه دومًا بحماسة وكأنها تتربع على عرشه ولا يصيبها منه شيء؛ لكنني اكتفيت منه بصديقة بعيدة أراسلها كل حين.. كانت تسكن جواري عندما كنا أطفالًا؛ لكن والدها سافر بعيدًا.. قال هناك أأمن.
أذكر من قصص أمي قصة كانت دائمًا ما تقصها عليّ، وعلى مسامع الجميع في الحقيقة، وأنا في الرابعة؛ كانت تحكي لي عن عفريتة الرجال..
عفريتة الرجال كانت بالنسبة لأمي جنية شريرة تزور الرجال في منامهم وتختطفهم إلى عالمها وتضعهم في شبكة كشباك العنكبوت ثم تتركهم هناك… تجمعهم كما التمائم، هكذا قالت أمي.
ولا أعرف ما سر اهتمام أمي بالتمائم وشباك العناكب لو كانت لا تحب العوالم الأخرى؛ لكنني دومًا ما تخيلت رأس أمي بيتٌ مهجور مليء بأكوام التراب المتحركة وتعشش فيه العناكب.. كنت دائمًا ما أتخيل عفريتة الرجال تسكن رأس أمي المهجور فقط وأضحك.. لكنني لم أخبرها قط.
لكنني أدركت في مرحلة مبكرة أن أمي ربما تكون قد وقعت على رأسها وهي صغيرة.. أو أصابها ميكروب تآكل رأسها على إثره وتحول إلى ذاك البيت المهجور. أدركت ذلك عندما كنا في أمان الله ذات يوم من أيامنا العادية، ورأيت أمي وحيدة على مسافة مني فذهبت إليها متهللة الأسارير لأقول لها شيئًا ما.. فوجدتها وقد هرعت في اتجاهي ويبدو عليها الهلع وتدفعني في اتجاه آخر وهي تقول: “العفريتة هنا.. هيا بنا قبل أن تخطفك أنت الأخرى”.. “ألا يكفيها الرجال”
كنت أظنها تمزح فلم يكن هناك أحد حولنا.. ولكنها كانت جادة؛ ويبدو أنها كانت خائفة جدًا لدرجة أنها ابتاعت لي السكاكر يومها ولعبة كبيرة. لا أخفيكم سرًا.. استمتعت بذلك ولم أقل لأمي أنه لم يكن هناك أحد سوى في عقلها المهجور.. وظللت أستمتع بذلك سنينًا بعدها؛ السكاكر تستحق.. أليس كذلك؟
مضى زمن طويل على هذه القصة وأدركت أمي أنني لم أعد أحب القصص، وأستطيع شراء السكاكر لنفسي؛ فانصرفت عني لحالها.
لكن اليوم أخذتنا مدرستنا في رحلة لإحدى الجامعات الراقية، حيث استقبلتنا عميد إحدى الكليات. كانت أنيقة للغاية، أناقة اعتادت أن تأسرني؛ كان شعرها القصير مصفف بعناية، بينما يبدو كإطار لنظارتها الطبية الواسعة، التي كانت تكلل فستانها الأسود الطويل ووشاح هادئ الألوان يحمل شعار الجامعة. كان حديثها أنيقٌ مثلها، رسّخ في بالي في حينها أنني أريد أن أكون مثل هذه الشخصية: واسعة العلم، هادئة الطلة وجميلة الوقع في نفوس الآخرين
قبل أن تنتهي رحلتنا الميدانية إلى الجامعة استأذنت من الأستاذة في حوار خاص وأخذت أسألها رأيها حول طموحي الدراسي وهل الجامعة هنا هي أفضل الأماكن لتحقيقه؛ كما سألتني بعض الأسئلة عني وعن طريقتي في الاستذكار ومنهجيتي في التفكير وقالت لي في النهاية أنني إنسانة واعدة وستكون لي بصمة جميلة في المجتمع… سعدت جدًا بكلماتها فقد كانت داعمًا كبيرًا لي ودافعًا للمضي قدمًا.
قبل أن أنهي حوارنا طلبت منها أن آخذ معها صورة، وعلى استحياء طلبت منها اسمها من جديد لأنني لا أجيد حفظ الأسماء من أول مرة.. فضحكت للغاية وأعادت ذكر اسمها وقالت أنها دومًا ما تنسى الأسماء أيضًا. استأذنتها في وضع صورتها في حسابي على انستجرام وأخبرتها أن اسمي “زاهية”… فتمنت لي أن أكون اسمًا على مسمى ولم تمانع نشر الصورة؛ قالت أن هذا كان فصلًا انتقاليًا لها وأنها في الأصل تدرس في جامعة في بلد آخر وقد لا تكون هنا لاستقبالنا العام القادم.. وأعطتني طريقة للتواصل معها حال احتجت ذلك لأي سبب.
كنت فخورة جدًا بنفسي ولا أكاد أطيق الانتظار للعودة إلى المنزل لمشاركة تفاصيل يومي؛ لكن ما إن دلفت عبر باب المنزل حتى صدمتني رؤية أمي متشحة بالسواد وعيناها تذرفان دمعًا ملوثًا بكحل ملون وأبي في طرف الغرفة يضرب كفًا بكف.
كانت أمي تنظر إلى صورتي في انستجرام وتهذي وهي تبكي: “العفريتة”.. “بنتي مع العفريتة”.. “العفريتة رجعت”.. “العفريتة هتخطف حياتي.. هتخطف روحي”.. “بنتي بتضحك للعفريتة”..
شعرت بكل حماسة اليوم تتقهقر في نفسي.. تذكرت على الفور قصة العفريتة المتكررة في صغري.. وهالني أن أمي ترى قدوتي “عفريتتها الهرمة”.. حاولت أن أربت على كتفها إلا أنها دفعتني بعيدًا وزادت في صراخها..
ذهبت إلى أبي وقلت له.. “ألم يكن لك أن تهدم البيت القديم في عقلها وتبني شيئًا حلوًا؟”
نظر لي في غير فهم.. فتركته ومضيت. مضيت إلى غرفتي، حيث إخوتي الصغار.. آملة أن يكون أحدٌ غيري في هذا المنزل قد نجا من أساطير أمي ليتفهم حلمي في أن أكون ما أريد.. لأكون ما قد تصفه نساء رؤوسهم كرأس أمي بـ “العفريتة”.
** تمـت **