أول ما يتبادر إلى ذهني حين يظهر التاريخ أمامي هو شعوري بالإيمان يتدفق بقلبي وكلمات أقرب الناس إلي تنزل كالصاعقة عليه: هتتهرسوا… ورغم ذلك؛ كانت اللهفة والشوق للحرية هما ما يكبلان قلبينا بين الآمل والمهزوم والساذج والعالم والغر وذلك الذي عرك الحياة…
أول ما يتبادر إلى ذهني حين يظهر التاريخ أمامي هو شعور الإيمان المتفجر من قلبي لكل روحي مؤملًا بالحرية مؤمنًا بالحق والإنسان ومؤمنًا إيمانًا لا يتزعزع بالثورة لأجل كل ذلك.
مازلت أراها حين أنظر إلى المرآة أحيانًا، ابنة الـ 17 تحفظ لوحة المفاتيح على ورق لأن الوقت المسموح لها على الأجهزة محدود جدًا والذي تود كتابته كثير جدًا؛ خطوت إلى هذا العالم بعد وفاة خالد سعيد وحين حلت الثورة كنت أرى ذرات الماء وهي تتجمع من كل حد وصوب لتفيض…
أما أنا فلا مكان لي في الميدان، أنا أقف حذاء كاتب التاريخ – أجمع المعلومات، أقوم بتلخيصها لتكون مناسبة لـ 120 حرف وأترجمها. هذا كان دوري… حينما انقطع الانترنت كنت أتابع كل ما ينشره المدونون عبر Tweet voice وأقوم بتحريره ومن ثم ترجمته هو الآخر…
كنت خارج كل الأطر… ولكني كنت لاعبة كرة طائرة محترفة تؤمن بأهمية الليبرو وضرورة إتقانه لدوره.
والتفاصيل لا تسمن ولا تغني من جوع في هذه اللحظة… ولكن بعد 10 سنوات ثقال؛ هل فقدت إيماني بالثورة؟
إذا كانت ”هتتهرسوا“ أول ما تبادر إلى ذهني كلما ذكرت يناير لماذا إذًا لا أجيب بـ ”نعم، فقدت إيماني“ وأترك الأمر… وأدركت حينها أنني ما فقدت ذلك الإيمان قط.
التفاصيل التفاصيل كيف كنا وماذا أصبحنا وكيف أصبحنا، من التقينا ومن آذانا ومن نصرنا، من أحببنا ومن فارقنا ومن آلمنا و… التفاصيل لا تنتهي!
يبقى الألم المبرح الذي يكاد يكتم النفس المتردد في صدري شاهدًا على إيماني الذي لم أفقده قط. لم تكن يناير قط ”لحظة“ حتى يكون الإيمان بها هوائيًا وقابل للفقدان، لم أكن من حزب الكنبة، ولم أكن ممن شمتلهم الصور؛ بل كنت مؤمنة… وهذا الألم المبرح هو دليلي الوحيد على أني مازلت حية، وأني… مازلت مؤمنة.
الحرية، الحق، الإنسان، الكرامة والعدل… يناير.
الألم الذي بداخلي هو ألم أسماء الشهداء التي لم توثق، آلام المصابين التي لم تطيب، المختفين الذين فقد الأمل في العثور عليهم، الأحداث التي همشت على جانب الميدان، الاعتقالات التي لم يلحظها أحد فلم يدينها. كما هو ألم الانقسام، تفتتنا في المعارك، انهيار الثقة، غياب الوعي، انهزام الديمقراطية، المجازر الأكبر في العصر الحديث، المجازر التي ليست بذات الحجم فتنسى، الطلبة، الاعتقالات بعشرات الآلاف، البنات، القصر، المطاردون، والمغتربون قسرًا والمستقبل الذي لا تلوح به تذكرة العودة…
ورغم كل ذلك يبقى الإيمان لأن ”الثمن الي اندفع مبقاش خلاص يرجع“ سواء كان الثمن الذي دفعته مهما صغر أو كان الثمن الذي دفعته مصر برمتها مهما كبر؛ فذلك الثمن المدفوع يزيد الإيمان ثباتًا ورسوخًا ولا يهزه…
هناك قاعدة في التداوي تقول: It has to get worse before it gets better لابد أن يسوء الأمر حتى يتحسن، ولعلنا على الطريق.
25 يناير ونجاحها لم يكن هو الإيمان الذي يحركنا، بل القيم التي حركتنا لأجل أن تتحرك جزيئات الماء؛ تلك هي مكونات إيماننا. لقد أدت 25 يناير الهدف منها وأكثر، لقد رحل مبارك، وزلزلت الداخلية وسقط العادلي وحسن عبدالرحمن وأباطرة التعذيب وخاضت مصر تجربة الديمقراطية وأدرك الناس أنهم قادرون على ”الوقوف في الطوابير“ ويملكون حس المسؤولية الوطنية البسيط في ضرورة إبداء الرأي. نزع كل هذا منا؛ لكن نزعه لا يقلل أبدًا من كونه قد تحقق… نعم، لقد تحقق؛ وقد شهدناه حقًا…
وحتى في هزيمتنا ومهما كانت أيادينا مطوية خلف ظهورنا وإن باتت رؤوسنا تحت البيادات فنحن لم نستسلم قط؛ ولن نستسلم… لعل اختيارنا للحياة كل يوم هو اختيار مزعج للظلم، واختيارنا لاسترجاع مشاعرنا مهما تجرعنا معها من ألم مزعج هو الآخر، ولعل وجودنا في حد ذاته Pain in the ass وهذه الخاطرة وحدها تدعو للابتسام…
لا بأس علينا… لا بأس! مادمنا نجتهد في فهم أخطائنا، إدراك نقاط قوتنا، توثيق تاريخنا، توثيق آلامنا، وتوثيق مظالمنا؛ فنحن لم ننته بعد…
أؤمن بالحرية… بالحق… وبالإنسان… أؤمن بالكرامة والعدل… مازال إيماني، و ”لم أزل منصور… ولم أهزم“ وإن كان أمل دنقل محقًا في دعوته ”لا تحلموا بعالم سعيد“ فالعوالم السعيدة لا تأتي بالحلم بل بالسعي، وإن غابت عن آفاقنا طويلًا لأن ”خلف كل قيصر يموت… قيصر جديد“ فلا بأس… فـ ”من قال ”لا“… لم يمت“ وإن ”ظل روحًا أبدية الألم“ فالـ ”لا“… لا تموت.
هناك مكتسب من مكتسبات الثورة يهمل ذكره في كل حين؛ وذلك هو: ”نحن“! ”نحن“ المكتسب الأول والأهم… وما دمنا… دامت.
ربما إن شق الطريق أكثر انهزمنا ”وانهرسنا“ وربما إن طال الطريق أكثر تفتحت الأبواب، والـ ”ربما“ لا تنتهي! لكن، ما دمنا على الطريق فلا بأس، ما دمنا نعمل على تطوير أنفسنا، والتحسين من أدواتنا، لغاتنا، مناهجنا، فلا بأس، ما دمنا مرتبطين بوطننا فلا بأس، ما دمنا محتفظين بذاكرتنا، محافظين على ذكرياتنا، حافظين لذكراهم؛ فلا بأس… مادمنا على الطريق؛ فليكن ما يكون.
لا يسعني وصف الإيمان المتجدد بالثورة رغم كل شيء إلا كما يوصل الحب، فهو ذلك الفيضان الذي يطال أراض في نفسك لم تكن تعرف أنها هنا، فيبعث فيها الحياة، فتتمدد روحك لحد لم تتخيله ممكنًا، وكما تلمع أعين العشاق، وكما يتورد جبينهم، وترتجف شفاههم وهي تنطق ”أحبك“… ترتجف أرواحنا بينما يخرج الهتاف مزلزلًا كل الرماد الذي ظنوا أننا ندفن تحته: ”يسقط يسقط كل مبارك!”