“التوق إلى الحرية غريزة”
قرأت هذه الجملة منذ أيام وعلقت بذهني ومازلت أتفكر فيها…
هذه بعض الخواطر…
كان من النقاشات الفكرية الثرية جدًا أيام الجامعة الأولى النقاش حول تعريف الحق والحرية وعلاقة كل منهما بالآخر. وأذكر بوضوح أن ثمة صداقات تكونت في قلبي لم يمسها شيء بهؤلاء اللذين اتفقت إجاباتهم مع ما وافق ضميري…
وأتوقع أنني يمكنني أن أختصر ذلك في قول: “الحق مطلق؛ والحرية هي المساحة التي نستطيع انتزاعها لممارسة تلك الحقوق!”
الجزء الخاص بإطلاق الحق جزء منطقي وغريزي تراه عيانًا في دب الطفل على الأرض وهو يصرخ فيك: “من حقي أن أفعل ما أريد” وعندما تكون ولي أمر ترى مساحات الحرية وهي تعطى وتمنع بلفظة منك فتدرك ما يحدد الحقوق بحق وهو ببساطة “السلطة”.
والسلطة هنا غير مقصود بها جهات حكومية أو دول أو أيًا يكن؛ أبدًا، السلطة هنا في معناها الأبسط وهو الطرف الذي يملك القوة لينفذ ما يريد أو يرى.
إذًا فكيف أتى الإعلان العالمي لحقوق الإنسان في الحرية المطلقة للتعبير والحركة و و و؟
أعني لابد أنه سؤال بديهي مر على خاطر الأفراد من الجموع ولو مرة – هذا إن كانوا بالطبع يعرفون بوجوده…
ولكن فكر فيها معي؛ لقد وجدت نفسك في موقع قوة وسلطة… لماذا تمنح مساحات من الحرية لست مطالبًا بها، ولو طالب أحد بها تستطيع ببساطة سحقه ولن يسمع عنه أحد…
يحلو لي أن أظن أنه بعد الحروب والدمار يستطيع الإنسان أن يرى جليًا نهاية الصراع ويرى حقيقة ضعفه البشري في حجم الدمار الذي تخلفه…
مدنٌ كاملة سحقت، تم تسويتها تمامًا بالأرض في الحرب العالمية الثانية، وبلاد ومقاطعات وقرى لم يعد من رجالها إلا لماما؛ والحرب ذاتها انقضت في النهاية بتجربة بدافع الانتقام… “ترى ما حجم الدمار الذي يمكن للعبتي الجديدة تحقيقه؟” قالها طفل غاضب يريد الانتقام بشدة ثم حينما أتته الإجابة قال في نفسه “لم أقصد ذلك…”
كان من الأسئلة الضميرية التي توضع أمامنا في دراستنا للحرب العالمية الثانية “ألم يكن من بد من وقوع الحرب؟”* يلاحقني هذا السؤال منذ سمعت سناء تقول: “علاء مش لازم يموت في السجن” ويعيدني إلى ذات النقطة التي أقف عندها الآن…
ألم يكن هناك خيارات أخرى؟
في الحقيقة؛ كانت الخيارات غير محدودة… ولكن مدى جدواها وواقعيتها واستداماتها ومساحة التفكير فيها وما قد طرح أمام قادة ذلك الزمان وما لم يطرح هو شأن ذلك الزمان… شأننا نحت هو التعلم من أفعالهم وخياراتهم وما نستنبطه منها وعدم تكرار أخطائهم…
فكيف أتى الإعلان العالمي لحقوق الإنسان؟! ظني… من الشعور الفادح الجماعي بالذنب!
لقد نجى البعض من متخذي القرار ليجدوا مدنًا قد اختفت من الخريطة وعشرات الملايين وقد ماتوا… بهذه البساطة! في أقل من عشر سنوات اختفت بأيديهم مدنًا كاملة والملايين من البشر!
خاطرة تقطع علي هذا الحبل من التفكير: قبل الإعلان العالمي لحقوق الإنسان كانت الصحافة المصرية أكثر حرية بكثير وأكثر تنوعًا مما أصبحت عليه ما بعد الإعلان العالمي لحقوق الإنسان و52 والسنوات السبعين الأخيرة!
عودة للإعلان العالمي لحقوق الإنسان… بالنسبة إلي ولرؤيتي التي لا تعني أحد: رؤية الإنسان لمدى الدمار الذي قد يخلفه إطلاق سلطته قد يجعله يحتاج – يدرك احتياجه -إلى تقويم أو توجيه…
المشهد الأول للذنب البشري حين يرى قابيل جثة أخيه ماثلة أمامه ولا يدري ما يفعل بها… لا سابقة ولا فكرة ولا إدراك سابق لنتيجة الفعل الذي نوى… حتى أتاه الغراب!
الإعلان العالمي لحقوق الإنسان كان نتيجة حتمية للدمار، لم يكن منحًا لمساحات من الحرية ولكنه كان مشاركة طوعية للسلطة لأن الإنسان لم يكن ليتحمل مثل هذا الذنب وحده!
مع الحق المطلق تأتي المسؤولية المطلقة… ومن أدرك السلطة المطلقة أدرك أنه لا يطيق المسؤولية المطلقة؛ ولا يطيق الوحدة المترتبة عليها…
منح أصحاب السلطة المطلقة، مساحات الحرية لشعوب العالم؛ إيمانًا منهم أن هذه الحريات ستعيد لمن هم في السلطة إنسانيتهم… ستقومهم فيتساوى الجميع… لن تسكن الأرض آلهة بعد الحرب العالمية الثانية…
لكن في الحقيقة، النص لا يعني التطبيق… أعني كثيرًا ما كنت أرى في نقاش الإسلاميين في الإعلان العالمي بعضًا من منطق حينما يقولون “الإسلام جاء بحقوق الإنسان أصلًا…” – فإن أعملنا القاعدة الضميرية الأم أول هذا النص فستجد أن نعم جاء الإسلام بصياغة لحقوق الإنسان وإن تباينت عن الإعلان العالمي ولكنه جاء بها… كما جاءت بها الأديان السماوية وغير السماوية لأنها ببساطة تحدد مساحات الحرية التي يمكن للإنسان فيها ممارسة حقوقه – ولكن أين تطبيق ما جاء به الإسلام؟ وأين تطبيق ما جاء به غيره؟ وكيف يمكن تطبيق ما جاء في الإعلان العالمي لحقوق الإنسان؟
أسئلة تبقى حية إلى يومنا هذا…
قفزة من النقاشات الضميرية إلى النقاشات الواقعية، إلى أهم سؤال في العلاقات الدولية والذي لم تتغير إجابته مهما كنا حالمين:
كيف السبيل إلى السلام؟
ج: الحرب!
عودة إلى الضمير؛ النصوص جميلة، تؤرخ ملخص تجربة العالم وتنص على ما تنص عليه وتدفعنا باتجاه شيئًا ما أفضل…
لا نص يتحول إلى واقع دون إرادة وعمل… هذا هو الواقع الوحيد. الإعلان العالمي موجود، وهناك من وقع عليه بالنيابة عن أكثر الدول قمعًا على مؤشرات العالم… ولكن كيف يتحول إلى واقع؟
“مفيش طريقة لتفادي الأذى!”
جملة عرضية قالها علاء في أحد نقاشاتنا الأخيرة، كان لها ما قبلها وما بعدها؛ لكنني كلما أراجع حديثنا أجدني أتوقف أمام هذه الجملة كثيرًا وأجدها عين المنطق…
لا يوجد طريقة لتفادي الأذى؛ حينما قامت الأمم المتحدة قامت بهدف طوباوي بوقف الحروب… مر حوالي 75 عام ولم تزل الحروب تشتعل… مازال السبيل إلى السلام يمر عن طريق الحرب…
ما دشنته الأمم المتحدة هو مساحة الحرية التي تضع المرء الذي يقود أي سلطة أمام “المحاسبة” إن لم يكن من داخل بلاده فمن العالم، وإن لم يكن من دول العالم فمن الإنسانية وإن لم يكن من الإنسانية فمن التاريخ…
لأنها ببساطة وضعت ميثاق جعل لحياة الإنسان العادي جدًا، المار ببساطة في الشارع، لا يعرف اسم الرئيس، ولا حتى اسم الدولة التي يعيش فيها؛ قيمة عليا، ولجسده كرامة، ولتعليمه ضرورة، وعلاجه أولوية، ولرأيه مساحة…
ببساطة تعهد كل من يملك قوة في ذلك الزمان أن تحترم بلاده هذا العهد تجاه الإنسانية… ومُنحت الإنسانية حينها حق المحاسبة… للجميع.
لا يمكن تفادي الأذى؛ ولكن يمكن الحد منه، بافتراض المحاسبة قبل اتخاذ القرار فيؤخذ القرار الأقل ضررًا، وبألا يتكرر إن كانت المحاسبة بالفعل على قدر الضرر…
ما الحق… الحق مطلق
إنما علينا انتزاع كل مساحة ممكنة لنا وللآخرين لنمارس حقوقنا…
وهنا يدركني سؤال الإسلاميين الوجودي أيام فسحة النقاشات: ولما تبقى الحريات ع البحري الناس تعيش إزاي؟
ويأتي الجواب من قلب الإسلام حينها… الرقابة الذاتية (الإحسان)
قال: وما الإحسان… “أن تعبد الله كأنك تراه… فإن لم تكن تراه فإنه يراك!”
حق… حرية… رقابة… ومحاسبة!
نعم؛ يبدو النقاش الضميري في هذه المساحة وكأنه إعادة لاختراع العجلة… ولكني على قناعة دائمة بضرورة مراجعة الأساسيات… الأسس التي كونا عليها فكرنا الشخصي لتقييم التغيرات التي طرأت علينا من عدمها وتطورنا وإدراكنا ووقع النصوص الأولى علينا بعد اتساع التجارب…
التوق إلى الحرية غريزة…
لا يمكن تفادي الأذى؛ ولكن علاء مش لازم يموت في السجن!
في الواقع علاء مش لازم يموت في السجن، ولا أكثر من 1100 شخص كان من الممكن حمايتهم من الموت كان لازم يموتوا في السجن!
بعد الشر على علاء ولكن هؤلاء الآخرين كان موتهم بهذه الطريقة اختيار لأصحاب السلطة… أتُرى لا ضمير لهم؟
ألم يستيقظ أيهم يومًا ويسأل نفسه: أكان يجب أن يحدث كل هذا؟
عودة إلى الخاطرة العرضية… كانت الصحافة في مصر أكثر حرية وتنوعًا في عصر ما قبل الإعلان العالمي لحقوق الإنسان لأن التعليم كان أساسًا مجتمعيًا حتى أن كل فئة كانت تدرك بالفعل حقوقها وتعمل بالفعل على ثقافتها وتغذية نفسها وتعرف بشكل أو آخر حدود مساحتها وتحترم وجود الآخرين على اختلافهم…
كُنا هناك… وسنعود؛
ستمضي هذه الأيام ومن الحتمي أن ترى مساحة السلطة المطلقة قلب أوسع بصيرة ليدرك أنه ليس من الحتمي أن يكون كل هذه الدمار…
أن يكبر كل هؤلاء الأطفال يتامى وآبائهم على مرمى حجر منهم…
أو أن تعيش كل هذه الأمهات ثكالى عطشى لنظرة لوجوه فلذات أكبادهم…
أو أن تعيش كل هؤلاء النساء بلا زوج.. وأزواجهن على بعد قرار من ذي سلطة ليست إلهية!
أن يقتل في السجن أكثر ممن قتل في أكبر مذبحة في العصر الحديث!
سترى السلطة يومًا قلوب أوسع بصيرة… ولن نحتاج أن نقول لأحد أن علاء مش لازم يموت في السجن؛ لأن في الواقع علاء مش لازم يكون في السجن!
لم يكن أبدًا من الضروري سجن كل هؤلاء حتى بأعتى حسابات الواقعية إجحافًا بالإنسانية… هذا الطغيان لم يكن يومًا من السياسة في شيء…
ألم يكن من بد من الحرب العالمية الثانية؟ كان جوابي حينها على هذا السؤال هو أنه لا يوجد شيء لا بد منه… كل شيء محض اختيار! تراكم الخيارات هو ما أدى لما بين أيدينا من قصص عن الحرب العالمية الثانية… ولكنها كانت دومًا خيارات “لها أخرى”… كان دومًا هناك خيار آخر…
الزمن لا يقف؛ وقد سقط مبارك في 25 يناير، ولكنه مات أيضًا… وأحيانًا ما تفوتني هذه الحقيقة… لقد – ببساطة – مات مبارك وكنا قد ظنناه يومًا لا يرحل…
الزمن لا يقف… وستكشف الأيام عما في جعبتها…
وفي مساحاتنا الضيقة من الحرية يجب أن ننتزع مساحة الجاهزية… أن نكون جاهزين للغد… جاهزين للألم والأمن على حد سواء… مدركين ماهية أفكارنا وقناعاتنا… ومدركين أسباب اختياراتنا… وجاهزون…
قد لا تكون هناك وسيلة لتفادي الأذى، هكذا قال علاء منذ بضع سنوات…
وقد قال أيضًا قبلها بعقد كامل: تجربة السجن تجربة مؤلمة، لكن هيبقى أهون عليا أني أكون عارف أنا مسجون ليه عما اتسجن وأنا مش عارف!
الحق الوحيد الذي لا يستطيع أحد سلبه منا أبدًا… هو حقنا في الاتصال مع أنفسنا… هذه هي مساحة الحرية المطلقة فعلًا؛ والتي لا يملك أحد منعنا منها سوى أنفسنا…
أدركناها… أدركنا بها الجاهزية…
أدركنا بها تعزية النفس حين التضحية وتهنئتها حين الكسب…
التوق إلى الحرية غريزة؛ إن منحناها لأنفسنا أدركنا من نحن، وما نريد أن نكون وكوننا بها مساحة الحقوق التي نحتاج وقدرنا به مساحات الحرية التي نحتاج انتزاعها بعالمنا… وحينها نصبح أوسع بصيرة… ومن كان يمشي على بصيرة؛ كانت خطواته أكثر نجاعة وأقل كلفة…
أكان لابد أن يحدث كل هذا؟ قد حدث…
ألابد أن يحدث كذا أو كذا؟! كلا… كل ما سيأتي اختيار…
يغلبني النعاس – أخيرًا – لذا؛ فاللهم اجنبنا الظلم ظالمين أو مظلومين وأعد الغائبين ورد اعتبارنا أجمعين…
يومًا ما يا وطني تعود حرًا بحق؛ وإن لم نشهده… فنشهد أنا آمنا به.
* Was World War II inevitable?
