يصعب تحديد المنزل في البداية لأن واجهته صغيرة كجميع البيوت المتلاصقة في ذاك الشارع. يقع هذا الشارع تحديدا بين مطالع ومنحدرات كثيرة تصب جميعها فيه… لذلك قد تشعر أحيانًا أنه لا مجال فيه للتوقف ولو لبرهة.. لذلك كان لا بد لي من حفظ الرقم والمثير للسخرية بالطبع أني تعلمته من الأوراق النقدية ومعرفتي – الثرية الفقيرة – بالفرنسية.
“سينتو ايه ڤينتشي سيز؛ بور فاڤور”
أبتسم للبوابة الحديدية التي قد تثير بعض القلق في نفس من لا يعرفها.. أبتسم بصدق لقضبانها والستائر المغلقة أو المفتوحة خلفها.. أحيانًا لا أضطر لذلك لأن أستاذنا يكون قد جاء بالفعل يعدل من وضع نظاراته و يعاتبني على طول الغياب بأسلوب ضاحك أو يفتعل عدم الاكتراث فتضحك ملامحه كافة حينها…
يملأ المنزل دائمًا رائحتين مميزتان وجميلتا الاختلاط.. القهوة والمطر.. يبدو الجو نديًا معبئ برائحة القهوة التي لا يخلو منها المنزل.. كثيرة السكر.. أنا الزائرة الوحيدة لذاك المنزل التي تشرب القهوة دون سكر… وفي ذاك المنزل تحديدا، أؤمن، أن لا أحد يكون بحاجة للسكر..
لا وجه يشبه الآخر في ذاك المنزل.. لا طرق تتقاطع.. لكن لا أحد هناك غريب.
تتناثر الأحاديث في كل ركن بالمنزل وفي الخطوات القصيرة إلى الخارج وفي ابتسامات وغمزات على بعد عند تبادل النكات أو المزاح.. ويغيم المكان حين يغتم أحد رواده وتواسيه الأركان كافة وكف الاستاذ تربت عليه أو تمتد إليه بالكوب الذي يهون على شفاهه كل شيء…
دائما تشاركنا الأمطار والقهوة لحظاتنا مهما كانت..
يقال أنك تترك في الأماكن دائمًا بصمة من روحك وقد تترك فيك الأمكنة بعض روح… تركت بـ سينتو ايه ڤينتشي سيز الكثير من روحي وترك بي الكثير والكثير من الحنين… هناك كنت أخطو آمنة بقدماي سواء كانتا بحجمها العادي أو المضاعف عشرة أضعاف نظرًا للحمل ولا أخاف.. وأستند على كتف خالد وهو يرتكن بجهازه على ركن المقعد وأخبره بكل ثقة.. “أنا أحب هذا المنزل..”
لم أودعه.. لم أملك الجرأة؛ ولم ألملم روحي وأغادر.. تركت منها ما تركت أملًا في عودة.. ولو لم أعد؛ حينما أمر بذاك الشارع الذي لا يتوقف به أحد.. سأقف؛ سأبتسم للبوابة الحديدية.. وأثق من كل قلبي أن المنزل سيبتسم لي.. بكل ما فيه من روح؛ من أعماق قلبه.
*
*
*
*
*
أسماء
اسطنبول، فجرًا