صديقي العزيز في مجاهل السجن،
وأكتب لك كمجهول لأنك لست شخصًا واحدًا وحيدًا، بل أنت أكثر بكثير من مجرد شخص. نفيس ثروتي من البشر أنت.. أبدأ الكتابات دومًا إلى علاء… لأن علاء كان يقدر الخطابات التي لا تصله.. ولكن يا صديقي العزيز لست علاء فقط.. ولم أعد أستطيع الكتابة لعلاء فقط… وأحيانًا أشعر أن ذلك لخوفي على علاء من كتاباتي التي لا نور بها ولا شعلة دفء ولا حتى منفذ للهواء!
ثم كان الآمن الذي لم يأمن في أمنه شر ذوي الشر وبات حبيسًا هو الآخر؛ المجهول العائش بلا اسم ثابت ولكن فقط قلب لا يخطئ نفسه ولا يخطئ بحقها. ولكن الكتابات إليه لن تكون سوى أسئلة ستبقى معلقة في الهواء بلا إجابة… مثلًا كـ “كيف حالك؟”
صديقي العزيز،
في السجن… تكاد تكون في كافة السجون! في لعبة بناء صغيرة للأطفال كانت الكثير من الأشجار اللعبة حتى يضعونها حول البيوت.. بعض الأسياج لكن الأشجار أكثر وأكثر… كيف يبني الطفل مجتمع مليء بالأخضر ثم يكبر ليبني زنازين للسجن.. لهذه السجون!
أنا لا أكتب..
قلمي سقيم..
لا طاقة بي حتى للخطوط المتقاطعة والدائرية على حافة الكراس.. لم أعد أكتب بالصفحة الأولى ولا أجد في نفسي القوة للمتابعة.. لم أعد أكتب.
يقول معلمي أن الشفاء في المقاومة ولا سبيل سواها.. قهر النفس على الكتابة.. وكلما حاولت.. تذكرتك..
أنا حبيسة عقلي الذي لا يعرفه أحد – حتى أنا! ولا يستطيع أحد نجدتي.. لا يوجد من سيغامر في الطريق للزيارة.. ولا الزيارة ستفتح منفذًا للهواء!
أقاوم بشدة زر الحذف.. أقاوم بشدة
حبيسة عقلي أنا.. وأنتم حبيسوا الواقع يا صديقي العزيز.. وكلاهما قابع على حيواتنا!
الأمر المضحك أنني لم أكن يومًا لأحاول زيارتك لأني أبغض السجن حتى وإن كان يحويكم بين جنباته.. وتبقى الأسئلة معلقة على بابه.. وأنا أكره المتنفس الوجيز الذي يريك العالم فيه أنه بإمكانك الحياة حياة لن تحياها لأن الواقع قرر هذا. لم أكن لأفعل هذا بك.. ولا أدري لم أكتب!
لم أعد أحزن ولم أعد أبتسم عند قراءة: هذا أيضًا سوف يمر… أصبحت مخدرة تمامًا من التفكير اللا نهائي فيما تحصره كلمة “كل” التي تسبق “هذا” في بعض الترجمات العربية وتمحو “أيضًا”! المسببات لحذف أيضًا.. وحصر الكل بـ “كل”!
صديقي العزيز الذي لا أستطيع بره ولو بكلمة مرحبًا.. ولا أستطيع مشاركته خاطرة تافهة ولا ذكرى طيبة ولا انهيار حواجز الجليد – الذي لا اعلم له موعدًا – الذي يحيط كل الألم لتخديره؛ أعتذر.
تؤلمني الحياة..
صديقي العزيز الذين لا أسرد أسماءهم خشية أن أسهو عن ذكر أحدهم فيقتلني الندم… أعتذر!
لابد وأن سبقني أحدهم لما أود قوله.. وصف ما يفعله أسر أحدنا بالآخرين.. كيف يشعر الإنسان حينما يسجن بعض منه.. كيف يلمس برودة السجن في قلبه.. ويتجمد الزمن.
الحرية تطلق العنان للروح..
عزيزي الباحث عن الجمال في المحن… لعل في الأسر جميل واحد؛ الحق في الألم… فالتألم حرية؛ حرية يفتقدها ذوي الحرية المتجمدون من الداخل.. المبتسمون من الخارج.. السائرين في الحيوات لأن الزمن لا ينتظر..
أتمنى لروحك حقها في التألم ربما… حتى إن جائتك الحرية يومًا.. انبعثت من رمادك ولم تخرج متأججًا بالجحيم.
أتمنى لك الحريات كافة… وأن تجد من الصحب من يحسن برك.. لأنني لا أعرف متى أكتب مرة ثانية.. إن كتبت.
صديقي العزيز.. تهالني أسماؤكم حين تتكالب عليّ..
أعتذر..
يا ليتني الصديق البار الذي وعدت.